رجل نحيف يغطي الشيب جزءا مهما من رأسه، يحمل في يده كيسا بلاستيكيا أسود، يذهب ويجيء على مسافة قصيرة بمحاذاة محطة الحافلة بساحة لاكونكورد في الدارالبيضاء..
كان يلقي نظرات حوله، ويلتفت في كل الجهات كل لحظة، وهو يرمق ساعته اليدوية، كما لو أن شخصا تأخر عنه، وحينما كانت تلتقي نظراته بأنظار الناس الذين كانوا يقفون في المحطة كانت عيناه لا تزيغان على نحو يعكس أنه يتفحصهم، أما رفاقه الذين توزعوا على طول الفضاء، فكانوا يرمقون من بعيد على غرار بقية الناس الذين كانوا يجهلون حقيقة هؤلاء..ربما هي استعدادات لسرقة بالخطف.
إنه وقت الذروة والحافلة لم تصل بعد، والمحطة تعج بالمواطنين الذين يتوافدون باستمرار، والرجل النحيف ما يزال يترنح في غفلة عن أناس لم ينتبهوا إلى هويته (لص دأب على الوقوف يوميا أمام المحطة)، وحينما أحس بأن هناك من يتابع حركاته تسمر في مكانه مترقبا قدوم الحافلة، التي تأخرت لحسن حظه، (فكلما تأخرت غصت المحطة بحشود من المواطنين، وهي مناسبة جيدة لمشتبه به كي يتوارى عن الأنظار).
كانت الحافلة ما تزال قادمة ببطء، والرجل النحيف يحاول مرة أخرى أن يؤطر موقعه من الناس أثناء صعوده إلى الحافلة، وما كادت الحافلة تتوقف حتى تجمهر الناس حولها ليتدافعوا على نحو استحسنه "اللص"، الذي ما فتئ يتزاحم بدوره، مستعينا بكيسه البلاستيكي الذي يحجب يده المندسّة في جيوب الركاب.
كان الزحام شديدا، ومن الصعب على الركاب أن يتحسسوا يد اللص وهو يستعين في ذلك برفاقه الذين حاصروا الركاب من كل الجهات، حين انخرطوا هم أيضا في الزحام، كما لو أنهم ستفوتهم فرصة الجلوس في الأماكن الشاغرة.
يصعد الركاب بعد تدافع مضن، البعض تأتى له الجلوس على الكراسي والبعض الآخر ما يزال يفتش له عن مقعد شاغر، وهي اللحظة التي كان فيها المشتبه بهم رفقة "الرجل النحيف" يتحايلون بطرقهم الخاصة لسلب جيوب الركاب، قبل أن يأخذ الجميع مكانه، وما إن انتظم الركاب وسط الحافلة حتى انسحب هؤلاء اللصوص منها، مبدين ضجرهم من فشلهم في العثور على مكان شاغر، لم يكن هدفهم طبعا.
خطة اللصوص لسرقة الركاب كانت سريعة ومحكمة، إذ لم يتركوا وقتا للركاب حتى لتحسس جيوبهم، التي فقدت الهواتف المحمولة والنقود، في حين اختفى المشتبه بهم للحظات وجيزة في انتظار انطلاق الحافلة وقدوم التي تليها، لتكرار العملية نفسها، إنها خفة اللصوص وإتقان للسرقة التي اتخذوها مهنة.
المداوم من المواطنين على ركوب الحافلة من ساحة لاكونكورد سيكون على معرفة بملامح هؤلاء، فيأخذ الحذر منهم، هذا إن أفلح في ذلك، إذ كثيرا ما يتناسى الركاب أمر اللصوص، بمجرد ما تصل الحافلة وتمتلئ جنبات المحطة بحشود المواطنين.
يحرص اللصوص بشكل يومي على الالتزام بمواعيد عملهم، التي تكون في وقت الذروة، حين يغادر المواطنون مقرات عملهم، ويضطرون إلى ركوب الحافلة، حيث يراهن اللصوص على الخروج بحصيلة يومية بعد بذل عناء الترقب والتزاحم والتواري عن أعين الرقباء.
أما في شهر رمضان فحكاية أخرى، حيث يتجند اللصوص في هذا الشهر على نحو مثير للانتباه، فيضايقون الناس في الشارع والحافلات وأينما تسنى لهم عزلهم لسلبهم أغراضهم، ويبرر البعض ذلك بحاجة هؤلاء إلى مصاريف مضاعفة، والبعض الآخر يفيد أن تعب المرء جراء الصوم يسهل وقوعه "فريسة" في أيدي اللصوص، وربما لهؤلاء رأي آخر يكمن في أن "السرقة" لديهم عادة لا تحددها المناسبات بقدر ما تحددها طبيعة الشخص التي تغريهم لاعتراض سبيله.
فاطمة الزهراء، التي لم تتجاوز عقدها الثاني، تؤكد أن تعرضها للسرقة ليس مرتبطا بوجودها في الحافلات وفي شهر رمضان، بل في مرات كثيرة اعترض طريقها لصوص أمام الملأ، وكل مرة كانوا يتفنون في صرف أنظار الناس عنهم، حينما يمسك أحدهم بذراعها كما لو كان رفيقها، في وقت يدس سلاحا أبيض تحت إبطه مهددا إياها بالطعن، إذا لم تذعن لأوامره، ما عبرت عنه بالقول: "الشفارة ديما موجودين فين ما مشينا، لكن في رمضان كتركبهم الجعرة".
أما زينب صديقتها، فتذكر أنه لحسن حظها لم يعترض طريقها يوما لص، لكنه سبق وأن سرقت بعض حاجاتها من حقيبتها في الحافلة دون أن تتبين ذلك حينها، مضيفة: "اللهم نتسرق بلا ما نعيق ولا يهددني الشفار ويقتلني بالخلعة، وفي الآخير ياخذ اللي بغا هو".
في حين يجد إسماعيل، القاطن بحي سيدي عثمان، أن امتهان بعض الشباب، وحتى النساء، للسرقة، راجع إلى الظروف الاجتماعية المتردية، فلا يعقل أن يتوفر المرء على ما يريد حتى يسرق حاجيات الناس، يقول اسماعيل على نحو يبرر دافع "اللصوص" إلى ممارسة هذا السلوك، مضيفا أنه كثيرا ما صادق أشخاصا امتهنوا السرقة، لكنهم كانوا مجبرين على ذلك في فترة وجيزة، ليقلعوا عنها بعد أن أيقنوا بأن مهنة التجارة أفضل بكثير من الإضرار بالآخرين، قائلا:"الله يحسن عوان كل واحد".