بحثا عن الدفء والكلأ

موسم الهروب من قساوة جبال الأطلس

الأربعاء 16 دجنبر 2009 - 07:29
شيوخ بالأطلس المتوسط يحاربون البرد

أقبل موسم الثلوج والبرد القارس، وأقبلت معه الأمراض وقسوة المناخ وتكاليف المعيشة، خصوصا بالمناطق القروية والجبلية التي تزداد بها حدة المعاناة، ويعتبر إقليم خنيفرة، إلى جانب إقليم ميدلت، من الأقاليم التي يعاني سكانها من شدة البرد الذي تخلفه التساقطات الثلجي

هذا ما يدفع بعضهم إلى هجر مناطقهم، هروبا من الخسائر التي يمكن أن يخلفها البرد، عبر النزوح نحو أماكن منخفضة ودافئة، فيما تختار شريحة واسعة من القرويين البقاء في الجبل، ما يستدعي منهم استعدادات جدية وحازمة للخروج من موسم "أسمّيد"، أو البرد القارس باللغة العربية، بأقل الخسائر. "المغربية" عاينت ظروف الترحال نحو "آزغار"، التي تعني السهل.

البرد القارس، الشبح الذي يطارد سكان الأطلس طيلة فصل الشتاء، يعتبر العدو اللذود الذي يجتاح المنطقة كل سنة من شهر دجنبر إلى ماي، حسب الظروف المناخية، وهو من بين الكوارث التي تلحق أضرارا بالإنسان
والحيوان وبالغطاء النباتي والأشجار.

مجابهة البرد والصقيع بمناطق الأطلس، تتطلب من أهالي المناطق الجبلية إمكانيات مادية ولوجيستيكية مهمة حتى يتمكنوا رفقة عائلاتهم ومواشيهم من فرصة الاستمرار في الحياة اليومية، لذلك فمجابهة هذه الآفة تبقى من أولويات سكان الأعالي، و يجري الاستعداد لها بحزم وجدية للخروج منها بأقل الأضرار التي تسببها الزوابع الثلجية ويزيدها الصقيع تعقيدا بحيث وصلت درجة البرودة بداية شهر دجنبر الحالي بهذه المناطق في بعض الأحيان إلى ما بين خمس و سبع درجات تحت الصفر.

نزوح نحو "آزغار"

دواوير "تيكلمامين"، و"أدمر"، و"أوسعدا" ، و"أوشنين" (آيت لحسن)، و"أزرزو"، ومداشر "آيت عمو أوعيسى"، إلى جانب مراكز "إيتزر وكروشن والقباب وزايدة و منطقة آيت أوفلا"، بالإضافة إلى العشرات من المداشر والدواوير بإقليمي ميدلت وخنيفرة، خصوصا تلك المتمركزة على علو أكثر من 1200 متر فوق سطح البحر، كل هذه المناطق النائية تتأثّر خلال فصل الشتاء بالبرد القارس، ما يدفع فئة من أهالي هذه القرى، خاصة متوسطة الدخل منها، إلى النزوح أثناء فصل الشتاء من قراهم نحو هوامش المدن المجاورة، والعودة إليها مع انتهاء موجات البرد.

أقرب المناطق التي ينزح نحوها السكان المتضررون من قساوة الطبيعة خلال فصل الشتاء هي منطقة "أزغار" (السهل)، حيث توجد أراضي الجموع، أو الاكتفاء بالاستقرار بالمراكز التي تقع في المنخفضات.

"البقاء في قريتنا خلال فصل الشتاء بات باهظ الثمن من حيث كلفة المعيشة، يقول "محند"، أحد الرحل بالمنطقة الجبلية بآيت بومزوغ، بالإضافة إلى محنة الإصابة بنزلات البرد التي تستدعي مصاريف إضافية، خاصة بالتنقل الذي يكون صعب المنال بسبب انسداد الطرق بالثلوج قصد التوجه نحو المستوصفات القريبة، التي تتطلب مصاريف إضافية لأداء فاتورة الصيدلية.

ويضيف "محند" أنه في السنة الماضية، "بعد أن قررت البقاء في "أجدير" لم أكن أتوقع أن تتساقط الثلوج بكميات كبيرة وصل سمكها إلى متر ونصف المتر، وأمام ذلك نفقت ماشيتي بأعداد كبيرة، فقدت ستة عشر خروفا، و سبع "نعجات" وأكثر من ثلاث عشر من الماعز، بالإضافة إلى الدواجن، لكن هذه السنة قررت الرحيل أنا وعائلتي وماشيتي، نحو المنخفضات بآزغار، حيث الجو والمعيشة أقل ضررا من الاستقرار في الجبل".

مغامرة البقاء

"رحو" شيخ في عقده السابع، أب لثلاثة أبناء متزوجين ، بالإضافة إلى عشرة أحفاد ، يعيشون جميعا في منزل طيني وسط غابات الأرز بـ"أمان دلين"، ووفق ما أفاده هذا الرجل فإن تربية الماشية والفلاحة مصدر عيشه، وأنه لن يرحل هذه السنة في اتجاه "أزغار" لأن عائداته من الأنشطة الفلاحية ضعيفة ودون المستوى، لذلك فهو غير قادر على الرحيل، أما ابنه فله وجهة نظر مخالفة، ويقول "تساقط الثلوج يمكن أن تعم في بعض الأحيان حتى منطقة "أزغار" بنفسها، إذن فالمعاناة مشتركة بالمنطقتين، وتساءل لماذا أتحمل مصاريف تنقيل العائلة ولوازم المعيشة بالإضافة للماشية، مشيرا أن مصاريف التنقل عبر الشاحنة تلزمه ألف درهم، وإذا ما تساقطت الثلوج بالمنخفضات فإنه مفلس بكل تأكيد".

وفي السياق نفسه يقول إن المئات من العائلات بالدواوير المجاورة لم تستطع توفير إمكانيات الرحيل نحو منخفض "آزغار"، لذلك قرر وعائلته مغامرة البقاء بالمنطقة.

البقاء و الاستقرار بالمناطق الجبلية في فصل الشتاء حسب معاينة "المغربية" لأحوال القرويين ، قرار تتخذه شريحة واسعة من المواطنين وفي نظر البعض منهم فهي مغامرة محتمة عليهم وتتطلب استعدادات جدية لمواجهة آثار التقلبات المناخية المعروفة بقساوتها الشديدة.

مؤونة للجميع

يقول رحو "الاستقرار هو أيضا بمثابة عذاب فعلي، عذاب مع البرد الذي ينخر المفاصيل، ويؤدي للموت في بعض الأحيان، ومعاناة مع توفير كميات كبيرة من المواد الغذائية للإنسان، و كميات أخرى من الأعلاف لضمان عيش الماشية، لأن جل المراعي تكون مكسوة بالثلوج التي تغطي البساط النباتي، الذي يعتبر المورد الأساسي للماشية".

ويضيف "استعدادا للصقيع وثلوج هذا الموسم الشتوي زودت عائلتي بأكثر من عشر قنينات غاز من الحجم الصغيرة، وعشرين لترا من الزيت، وأربعين قالب سكر، و خمس كيلوغرامات من الشاي، إلى جانب ستة أكياس من فئة مائة كيلوغرام من الدقيق، و كميات كبيرة من مختلف الخضر و القطنيات، بالإضافة إلى عدد من "فتائل الإنارة" والشمع والكبريت والولاعات وإلى غيرها من المواد الضرورية الأخرى".

أما بالنسبة لمستلزمات الماشية، يضيف "رحو"، فقد اقتنيت أكثر من خمسين مكعبا للتبن "البال"، وأكثر من عشرين قنطارا من الشعير، وفيما يخص التدفئة، قال مستطردا أن المنطقة غابوية بامتياز، وأنه رفقة إخوانه بتخزين كميات كبيرة من حطب الأرز والكروش الأخضر اليابس لمواجهة البرد وضمان الدافء للعائلته .

نظام الترحال

القبيلة في الأطلس المتوسط، حسب أستاذ وباحث بالمنطقة، كيان متحرك، يحب الترحال، ويرفض الخضوع غير المتفاوض عليه. انتقاله الدائم بين الجبل وأزغار يوفر له مساحة زمنية كافية لتدبير وجوده والاكتفاء بذاته.

ويضيف لـ"المغربية" أنها قبائل تدخل في نظام الترحال السنوي، حيث تقيم شتاء في أزغار، أي الأراضي الموجودة على سفوح جبال الأطلس المتوسط، وتنتقل صيفا إلى الجبال، حيث يكثر الكلأ بعد ذوبان الثلوج، وتنتشر زراعات أخرى كالذرة والشعير والقمح. وهذا ما يعني أن هناك مجالين لنفوذ القبيلة واحد في الجبل والآخر في السهل أو أزغار.

وقد نفهم من هذا الترحال، الرغبة في الاحتفاظ بعمق استراتيجي داخل الجبال قصد الحماية وضمان المؤونة والكلأ للماشية التي تشكل النشاط الفلاحي الأكثر انتشارا بين قبائل الأطلس المتوسط، إذ تشير بعض الدراسات التاريخية القديمة أنهم كانوا يُسمون "آيت أولي"، أي أهل الماشية.

ملايير السنتيمات

ووفق ما أكده فاعلون جمعويون وحقوقيون لـ"المغربية" فإن المنطقة رغم أنها تعتبر من أغنى المناطق بالمغرب، لأن غابات الأرز تدر على جماعتها ملايير السنتيمات، إلا أنها مازالت تعيش تهميشا كبيرا، والدليل غياب أي مجهود من المنتخبين لمساعدة ناخبيهم بتوفير إمكانية استقرار السكان القرويين بالمنطقة، وتجنيبهم معاناة الترحال نحو السافلة.

وأفادت المصادر نفسها أن حركة التنقل بين القرى في موسم الشتاء صعبة للغاية خصوصا في فترة العواصف الثلجية، نظرا لانسداد الطرق والمسالك وطبيعة التربة الطينية الثقيلة، فيكون الضحايا الأوائل هم السكان المحليين، وما يزيد الطين بلة هو أن مداخيل الجماعة لا تستغل لفتح المسالك، وانجاز شبكة طرقية، واقتناء آليات إزاحة الثلوج لفك العزلة عن الدواوير في الأيام العصيبة، عوض شراء سيارات رباعية الدفع فارهة من مال الشعب، وكان من المفروض أيضا، على حد تعبير المصادر ذاتها العمل على توفير الأعلاف المدعمة للفلاحين لأن المراعي الطبيعية تكون لا محالة مكسوة بالثلوج في موسم كل شتاء مما يسبب نفوق الماشية التي تعتبر المكسب الوحيد للسكان.





تابعونا على فيسبوك